تسرب الموارد: كيف يكلف ضعف كفاءة الإنفاق الاجتماعي المنطقة العربية 112 مليار دولار ويهدد الاستدامة المالية


يُعد الإنفاق الحكومي في الدول العربية، وتحديداً ذلك المخصص للقطاعات الاجتماعية الحيوية، نقطة ارتكاز مزدوجة: هو ضرورة لتحقيق العدالة الاجتماعية واستقرار الأوطان، وفي الوقت ذاته، قد يصبح مصدراً رئيسياً لاستنزاف الموارد وتهديد الاستدامة المالية إذا ما غابت الكفاءة. وفي ظل هذه الخلفية المعقدة، اكتسب إطلاق المنتدى العربي للمالية العامة والموازنة، الذي تنظمه منظمة الإسكوا التابعة للأمم المتحدة، أهمية قصوى في الأوساط الاقتصادية والسياسية.

التحليل الأولي الذي أطلقه المنتدى، والذي تطرق إليه أمين سر الإسكوا، كريم خليل، يشير إلى أن ضعف كفاءة هذا الإنفاق يُكبّد الدول العربية خسائر تقدر بنحو 112 مليار دولار سنوياً. هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل هو مؤشر صارخ على الحاجة الملحة لإعادة هندسة إدارة المالية العامة في المنطقة.

تسرب الموارد: تحليل خسارة 112 مليار دولار سنوياً

إن الخسارة المقدرة بـ 112 مليار دولار لا تعني بالضرورة تقصيراً في حجم المخصصات، بقدر ما تعكس خللاً هيكلياً في آليات الصرف والتحصيل. هذا "التسرب المالي" ينبع من ثلاثة محاور رئيسية تشغل بال المستثمر الذي يقيم المخاطر السيادية في المنطقة:

  1. هدر الإنفاق التشغيلي: عدم ربط الموازنات بالأداء الفعلي، مما يؤدي إلى ضخ أموال في مشاريع ذات عائد اجتماعي أو اقتصادي ضئيل أو متأخر.
  2. كفاءة التحويلات والدعم: استمرار الأنظمة القديمة للدعم الشامل (الوقود، الغذاء، الطاقة)، بدلاً من التحول إلى الدعم النقدي الموجه للفئات الأكثر استحقاقاً، مما يساهم في استفادة الأثرياء ورجال الأعمال بشكل غير مبرر.
  3. البيروقراطية والفساد: ارتفاع تكاليف المعاملات الإدارية والمالية الحكومية، مما يقلل من القيمة الفعلية للمبالغ التي تصل إلى المستفيد النهائي.

الاستدامة المالية ومخاطر الاستثمار في المنطقة العربية

تحت شعار "تعزيز الإنفاق على القطاع الاجتماعي وتحقيق الاستدامة المالية"، يضع المنتدى يده على التحدي الأكبر في إدارة المالية العامة العربية: كيف يمكن تعزيز الإنفاق الاجتماعي الضروري دون المساس بالقدرة على سداد الديون وتحقيق التوازن المالي على المدى الطويل؟

بالنسبة للمستثمرين في الأسواق الناشئة، فإن كفاءة الإنفاق الاجتماعي هي مؤشر استراتيجي حيوي، حيث ترتبط ارتباطاً مباشراً بمخاطر السيولة والمخاطر السياسية.

التأثير على الأسواق والأصول السيادية

  • تقييم المخاطر السيادية (Sovereign Risk): عندما تهدر الحكومات مواردها بهذه المعدلات الهائلة، فإنها تضطر إما إلى زيادة الضرائب العشوائية أو زيادة الاقتراض، ما يرفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي (Debt-to-GDP) ويضغط على التصنيفات الائتمانية.
  • أزمة الرأسمال البشري: الإنفاق غير الفعال في التعليم والصحة يعني إهداراً للاستثمار في الرأسمال البشري، مما يقوّض القدرة التنافسية للاقتصادات العربية على المدى المتوسط، وهو ما يهم الشركات التي تخطط لتوسع إقليمي.
  • الاستقرار السياسي: إن عدم وصول المنافع الاجتماعية إلى مستحقيها يفاقم الفجوة بين الطبقات ويزيد من الاحتقان، وهو ما يُترجم مباشرة إلى ارتفاع في "مخاطر علاوة عدم الاستقرار السياسي" (Political Risk Premium) التي يطلبها المستثمرون الأجانب.

التوصيات التحليلية: نحو موازنات قائمة على الأداء

إن الحوار الدائر في المنتدى العربي للمالية يمثل نقطة تحول مفترضة. الحل ليس في خفض الإنفاق الاجتماعي (وهو أمر قد يهدد الاستقرار)، بل في تحسين كفاءته جذرياً. يجب على الحكومات العربية أن تنتقل من نموذج "موازنة البنود" إلى "موازنة الأداء والبرامج" (Performance-Based Budgeting).

دعوة الإسكوا للتركيز على التحديات المرتبطة بـ "كفاءة الموارد" هي دعوة للمساءلة. المستثمرون والمؤسسات المالية الدولية يراقبون عن كثب مدى جدية الحكومات في تطبيق إصلاحات تمس كفاءة الإنفاق، لأن هذا هو الفيصل بين اقتصادات نامية تتجه نحو التعافي، وأخرى عالقة في فخ الديون وضعف الحوكمة. إن الـ 112 مليار دولار ليست خسارة يمكن التغاضي عنها؛ إنها كلفة تأجيل الإصلاح الهيكلي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال