ليست زيارة وزير التجارة الخارجية الفرنسي، نيكولا فوريسييه، إلى الرياض حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل هي مؤشر استراتيجي يعكس التحول العميق في الأولويات الأوروبية تجاه الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية. تأتي هذه الزيارة، وهي الأولى للوزير في المنطقة، لتؤكد ما بات راسخاً في أروقة المال الغربية: المملكة لم تعد مجرد مورد للطاقة، بل أضحت "ساحة فرص" ومحوراً استثمارياً دولياً لا يمكن تجاهله.
التحليل الجيواقتصادي: لماذا الآن؟
تتزامن هذه الزيارة مع تسارع وتيرة تنفيذ المشاريع العملاقة ضمن "رؤية 2030"، التي تتطلب ضخ مئات المليارات في قطاعات غير نفطية مثل البنية التحتية، والسياحة، والتقنية، والدفاع. بالنسبة لفرنسا، التي تسعى لتعزيز مكانتها كقوة أوروبية محورية في الشرق الأوسط في ظل المنافسة الشديدة من الولايات المتحدة والصين وألمانيا، فإن تأمين موطئ قدم أعمق في السوق السعودية يمثل ضرورة استراتيجية.
لقد أدركت باريس أن الريادة الاقتصادية السعودية لم تعد محصورة في الطاقة التقليدية، بل تمتد لتشمل الريادة في الطاقة الخضراء (الهيدروجين الأخضر) والمدن الذكية. ولذلك، فإن الزيارة تستهدف تحويل العلاقات التقليدية القائمة على صفقات الدفاع والطاقة إلى شراكة استثمارية أوسع تشمل التكنولوجيا ونقل المعرفة.
فضاء الفرص: القطاعات المستهدفة للشركات الفرنسية
تشير تصريحات مكتب الوزير إلى التركيز على تعزيز العلاقات الثنائية، وهو مصطلح دبلوماسي يعني عملياً فتح الأبواب أمام حزمة من العقود المرتقبة. يمكن للمستثمر أن يحدد أربعة قطاعات رئيسية ستحظى بأولوية خلال المباحثات:
1. البنية التحتية والمدن المستدامة:
تتمتع الشركات الفرنسية العملاقة في مجال الإنشاءات وإدارة المرافق (مثل Vinci وBouygues) بتاريخ طويل في المنطقة. ومع مشاريع مثل نيوم و"ذا لاين"، تحتاج السعودية إلى خبرات فرنسية متقدمة في تخطيط المدن الذكية والنقل المستدام.
2. الدفاع والأمن السيبراني:
تُعد فرنسا مزوداً تقليدياً للأسلحة والتقنيات الدفاعية للمملكة. الزيارة ستعزز التعاون في هذا المجال، خاصة مع تزايد أهمية الأمن السيبراني وحماية البنى التحتية الحيوية. هذا يمثل دفعة محتملة لأسهم شركات مثل Thales.
3. الطاقة الخضراء والاستثمار المالي:
تسعى السعودية لتصبح رائدة في إنتاج الهيدروجين الأخضر. الشركات الفرنسية المتخصصة في الطاقة المتجددة (مثل TotalEnergies) تضع المملكة ضمن خططها التوسعية. على الصعيد المالي، تسعى البنوك الفرنسية الكبرى للاستفادة من طرح السندات والاحتياج التمويلي الهائل لمشاريع الرؤية.
الانعكاسات على الأسواق المالية (Stock Market Implications)
بالنسبة للمستثمر المتخصص، فإن نجاح هذه الزيارة يعكس مستوى الثقة في البيئة التنظيمية السعودية وقدرتها على استيعاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI).
مؤشر الثقة الأوروبية: الزيارات عالية المستوى مثل هذه غالباً ما تسبق توقيع اتفاقيات كبرى. أي إعلان عن شراكات استراتيجية جديدة سيؤثر إيجاباً على تقييمات الشركات الفرنسية المشاركة، لا سيما تلك المدرجة في مؤشر CAC 40.
أداء سوق تداول: بينما تركز الزيارة على الشركات الفرنسية، فإن تدفق الاستثمارات الأوروبية يرسخ مكانة السوق السعودية كوجهة آمنة، مما يعزز السيولة والثقة في أسهم قطاعي البنوك والمقاولات المحليين الذين سيعملون كشركاء تنفيذيين للجانب الفرنسي.
خلاصة استراتيجية
تؤكد جولة الوزير الفرنسي أن السعودية أصبحت القطب الجاذب للاستثمار الغربي في المنطقة، متجاوزة التقلبات الجيوسياسية الإقليمية بفضل زخم الإصلاح الاقتصادي الداخلي. هذا التقارب الفرنسي السعودي يخدم مصالح البلدين: يوفر لفرنسا عقوداً ضخمة ونفاذاً لسوق واعد، ويدعم للمملكة هدفها في تنويع مصادر الدخل وتعزيز مكانتها كقوة اقتصادية صاعدة. يجب على المستثمرين مراقبة البيانات الصادرة عن الشركات الفرنسية الكبرى خلال الأشهر المقبلة بحثاً عن إعلانات الصفقات التي قد تنجم عن هذه الزيارة الاستراتيجية.