في تحليل عميق للمشهد السوداني المتأزم، لا يمكن للمستثمر أو صانع القرار أن يغض الطرف عن التحولات الداخلية في هيكل القيادة العسكرية والمدنية بمدينة بورتسودان. الأحداث الأخيرة، التي تتجاوز مجرد الخطأ الدبلوماسي العارض، تكشف عن تفكك استراتيجي يضاعف من عامل عدم اليقين ويدفع بعلاوة المخاطر الجيوسياسية إلى مستويات حرجة، وهو ما يستدعي إعادة تقييم شاملة لتوقعات إنهاء الصراع.
أزمة التنسيق: مؤشر على الصراع الداخلي
تُعدّ التصريحات المتضاربة لقائد الجيش، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، حول خطة "الرباعية" لوقف إطلاق النار، بمثابة صافرة إنذار على التصدع العميق في رؤية الحكم. عندما يقدم قائد الدولة موقفاً دبلوماسياً مغايراً لما يُفترض أنه استراتيجية متفق عليها، فذلك يشير إلى ثلاثة مخاطر فورية:
- شلل القرار الاستراتيجي: غياب صوت موحد يعني أن القرارات الحاسمة بشأن الحرب والسلام ليست حاسمة بل قابلة للتعديل أو النقض الفوري، مما يقلل من موثوقية المفاوضات الإقليمية.
- فشل الهيكل التنفيذي: تزامن هذا التباين مع غياب وزير الدفاع، الفريق أول حسن كبرون، عن اجتماع مجلس الأمن والدفاع، ليس مجرد مصادفة إجرائية. في زمن الحرب، يُنظر إلى غياب وزير الدفاع عن أهم اجتماع أمني كدليل على خلافات حادة بين الأجنحة أو محاولات لتهميش مراكز قوى معينة.
- الارتباك الدبلوماسي: ارتكاب خطأ بقراءة وثيقة خاطئة في المحافل الدولية (سواء كان الخطأ من وزير الخارجية المكلف أو من مكتب البرهان) هو انعكاس للفوضى الإدارية والتشغيلية، مما يضعف موقف الخرطوم (بورتسودان) التفاوضي بشكل كبير.
تأثير الانقسام على التوقعات الاقتصادية والجيوسياسية
بالنسبة للأسواق والمستثمرين المهتمين بالمنطقة الأفريقية والشرق أوسطية، فإن استمرار حالة الارتباك في بورتسودان له تداعيات مباشرة على تقييم المخاطر:
1. تمديد أفق النزاع وعرقلة المساعدات: الانقسام الداخلي يضمن استمرار الحرب لأجل غير مسمى. غياب الرؤية الموحدة يعني أن أي اتفاق سلام يتم التوصل إليه قد لا يُنفذ على الأرض، مما يطيل أمد الأزمة الإنسانية ويحول دون استقرار الممرات التجارية والخدمات اللوجستية، خصوصاً حول ميناء بورتسودان.
2. تضخم عامل المخاطر الإقليمية: السودان يمثل نقطة ارتكاز جيوسياسية هامة تربط حوض النيل بالبحر الأحمر. أي ضعف في سلطة الحكومة المركزية (حتى وإن كانت مؤقتة) يفتح الباب أمام تدخلات القوى الإقليمية المتنافسة، مما يزيد من احتمالية "تحويل الصراع" إلى حرب بالوكالة، وهو ما يهدد استقرار ممرات الشحن البحري الحيوية في جنوب البحر الأحمر.
3. ضعف العملة وتآكل الأصول: تؤدي الخلافات القيادية إلى تآكل الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الموارد القليلة المتبقية. هذا ينعكس سلبًا على سعر الصرف في السوق الموازية ويزيد من معدلات التضخم التي تجاوزت معدلات خطيرة بالفعل، مما يقضي على أي أمل في إطلاق إصلاحات اقتصادية فورية.
الخلاصة: مخاطر الانكشاف الاستراتيجي
إن التحليل الاستراتيجي يشير إلى أن ما يحدث ليس مجرد ارتباك إجرائي، بل هو انكشاف لصدع عميق بين مراكز القوى داخل القيادة العسكرية. المستثمرون والمؤسسات الدولية يجب أن ينظروا إلى هذه المؤشرات على أنها علامات على ارتفاع تكلفة الاستقرار في السودان، وأن الطريق إلى حل دبلوماسي شامل يمر أولاً باستعادة التماسك الداخلي في بورتسودان، وهو الهدف الذي يبدو بعيد المنال في الوقت الراهن.