من منظور المستثمر والسياسي المحنك، لا يمكن اعتبار التصريحات الأمريكية الأخيرة مجرد مناشدة إنسانية عابرة، بل هي مؤشر واضح على تصعيد مستوى الضغط الدولي لإدارة الأزمة السودانية التي تجاوزت حدودها الجغرافية لتهدد الاستقرار الإقليمي بأكمله.
في بيان صدر يوم الأربعاء، أكد مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون الإفريقية والعربية، التوقع الحاسم من قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية بالالتزام الفوري واللامشروط بـ "هدنة إنسانية". هذا الإصرار الأمريكي يكشف عن إدراك واشنطن بأن أي تقاعس إضافي سيعزز من حالة عدم اليقين التي تضرب الأسواق المجاورة، ويصعد من المخاطر الجيوسياسية الممنهجة في منطقة القرن الإفريقي.
رسالة واشنطن غير المشروطة: قراءة في ثقل الموقف الأمريكي
تكتسب تصريحات بولس أهميتها من كونها تضع ثقل البيت الأبيض مباشرة خلف مبادرة الهدنة. عندما تطلب واشنطن الالتزام "دون شروط مسبقة"، فإنها عملياً تسحب البساط من تحت أي مبررات لوجستية أو عسكرية يمكن أن يستخدمها الطرفان (الجيش والدعم السريع) لخرق التفاهمات. في لغة السياسة الدولية، هذا يعتبر تحولاً من الدعوة إلى وضع التوقعات، مما يفتح الباب أمام إجراءات عقابية محتملة في حال عدم الامتثال، خاصة تلك التي تستهدف الأفراد أو الكيانات المرتبطة بالاقتصاد الحربي.
هشاشة الهدن السابقة: شكوك المستثمر في الالتزام الفوري
يجب على المستثمرين التعامل مع هذا التوقع بقدر عالٍ من الحذر والتشكيك، بناءً على السجل التاريخي. لقد شهدنا في الأشهر الماضية سلسلة من الهدن التي لم تصمد سوى ساعات أو أيام، مما يجعل أي ارتفاع في الأسواق الإقليمية بناءً على هذا الخبر قصير الأجل ومحفوفاً بالمخاطر. السوق يقدّر الأفعال لا الأقوال. ومن هنا، فإن الاستقرار الحقيقي لن ينعكس في تقييمات الأصول إلا عندما يتم التحقق من سريان الهدنة ميدانياً لأسابيع متتالية، مصحوباً بآلية مراقبة دولية فاعلة.
التكلفة الاقتصادية للتقاعس: لماذا يراقب سوق السلع الخرطوم؟
بالنسبة لأسواق المال، لا تتعلق الأزمة السودانية فقط بـ "الخسارة التشغيلية" داخل حدود الدولة، بل بـ "المخاطر النظامية" التي تلوح في الأفق. السودان، بموقعه الاستراتيجي، يمثل عقدة حيوية في طرق تجارة الذهب والمنتجات الزراعية. استمرار القتال يغذي عدة عوامل ضغط اقتصادية:
- تعطيل سلاسل الإمداد: يؤثر عدم الاستقرار في السودان على الموانئ والبنية التحتية، مما يزيد تكاليف الشحن واللوجستيات للمنطقة بأسرها.
- تضخم المخاطر الائتمانية: تزيد الأزمة من علاوة المخاطر المطلوبة على الاستثمار في دول الجوار (مثل مصر وإثيوبيا)، مما يرفع تكلفة الاقتراض ويؤثر سلباً على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
- أزمة اللاجئين والإنفاق الحكومي: الضغط الناتج عن تدفق اللاجئين يفرض أعباءً إضافية على ميزانيات الدول المضيفة، مما قد يؤدي إلى زيادة العجز الحكومي أو خفض الإنفاق التنموي.
خطر العدوى الجيوسياسية: تقييم المخاطر العابرة للحدود
التحليل الجيوسياسي يشير إلى أن الفشل في تثبيت الهدنة قد يؤدي إلى استقطاب إقليمي أعمق، حيث قد تتزايد التدخلات غير المباشرة من قوى إقليمية متنافسة تدعم طرفاً على حساب الآخر. هذا السيناريو هو الأسوأ بالنسبة للمستثمرين؛ لأنه يحول الصراع المحلي إلى حرب بالوكالة، مما يغلق تماماً أي أفق للحل السياسي أو الانتعاش الاقتصادي في المستقبل المنظور. لذلك، فإن إجبار الأطراف على الهدنة هو محاولة أمريكية لإدارة الأزمة ومنع تحولها إلى صراع إقليمي شامل يعرض المصالح الغربية والاستثمارية للخطر.
الخلاصة:
إن بيان بولس هو صمام أمان جيوسياسي، يهدف إلى خفض حرارة الصراع ولو مؤقتاً. ورغم أن المستثمر يظل متشككاً في الالتزام الفعلي، فإن هذا الضغط الأمريكي يمثل شرطاً ضرورياً - ولكنه ليس كافياً - لإعادة بناء الثقة في الأسواق الإقليمية. يجب أن تترقب الأسواق ليس فقط الإعلان عن الهدنة، بل أيضاً آليات تطبيقها والعواقب المترتبة على انتهاكها.