بقلم: المحلل الاقتصادي والسياسي (خبير الأسواق)
تُعدّ التطورات الأخيرة في الساحة السودانية بمثابة جرس إنذار للمستثمرين والمهتمين بتحليل المخاطر الجيوسياسية في منطقة القرن الإفريقي. فقد أشار تحالف السودان التأسيسي ("تأسيس") إلى خرق واضح للهدنة الإنسانية المعلنة مؤخراً، متهماً قوات الجيش والمجموعات الموالية لها بشن هجمات على مواقعه في ولايتي شمال وغرب كردفان. هذه الانتهاكات لا تمثل مجرد خرق لاتفاق مؤقت، بل تؤكد على تفاقم "علاوة المخاطر السيادية" في البلاد، وهو ما يتطلب قراءة تحليلية عميقة.
1. الهشاشة السياسية وعمق أزمة الثقة
إن الخبر الذي يفيد بشن هجمات عسكرية على مواقع تابعة لتحالف "تأسيس" يأتي في سياق بالغ التعقيد، خصوصاً وأن الهدنة الإنسانية كان قد أعلن عنها رئيس المجلس الرئاسي للتحالف ذاته، محمد حمدان دقلو (حميدتي). وهذا يضعنا أمام استنتاجين لا مفر منهما، وكلاهما قاتل للاستقرار:
- أولاً: الانفلات العسكري: إذا كانت القيادة العليا (التي يمثلها تحالف "تأسيس" أو الكتلة المقابلة) غير قادرة على ضمان التزام قواتها أو القوات المتحالفة معها بوقف إطلاق النار المعلن، فهذا يشير إلى ضعف حاد في هيكل القيادة والسيطرة العسكرية، مما يزيد من احتمالية وقوع حوادث عشوائية تتسبب في تصعيد شامل.
- ثانياً: المناورة التكتيكية: قد تكون هذه الهجمات متعمدة لتقويض مصداقية الإعلان عن الهدنة، واستخدام الفترة المعلنة لإعادة التموضع والضغط على نقاط استراتيجية، وهو سلوك ينهي أي أمل في المفاوضات الجادة ويدفع الصراع نحو أمد أطول وأكثر دموية.
تداعيات الخرق على المصداقية الدولية
في عالم الأسواق، تُترجم الوعود الكاذبة أو الخروقات المتكررة للاتفاقيات إلى فقدان الثقة في قدرة الحكومة المركزية (أو الأطراف المؤثرة) على إدارة الأزمة. وهذا يعيق بشكل مباشر أي جهود دولية لإعادة هيكلة الديون أو ضخ استثمارات إغاثية أو تنموية، حيث يرى المستثمرون والمؤسسات المالية الدولية أن المخاطر التنفيذية أصبحت غير قابلة للقياس.
2. كردفان: محور الاقتصاد واللوجستيات تحت النار
إن اختيار ولايتي شمال وغرب كردفان كساحة للهجمات ليس عشوائياً، بل يحمل دلالات اقتصادية عميقة. تعد كردفان من المناطق الحيوية التي تربط شرق البلاد بغربها، وهي مركز رئيسي لإنتاج الصمغ العربي والمحاصيل الزيتية، بالإضافة إلى كونها معبراً لوجستياً حيوياً لنقل البضائع والمساعدات الإنسانية.
الارتدادات الاقتصادية لعدم الاستقرار
يؤدي استمرار القتال في هذه المناطق إلى:
- تعطيل سلاسل الإمداد الداخلية: وهذا يرفع تكاليف النقل والتشغيل لجميع القطاعات، ويضاعف من أزمة الغذاء والتضخم المحلية.
- تأجيل الاستثمارات الزراعية: وهي العصب الاقتصادي للسودان. حيث أن العنف المستمر يمنع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم ويعطل مواسم الزراعة والحصاد، مما يضرب إمكانات البلاد التصديرية المستقبلية.
- تدهور سعر الصرف: تستجيب الأسواق السودانية غير الرسمية لأخبار التصعيد الفوري بزيادة الطلب على العملات الأجنبية كملجأ آمن، مما يزيد من ضغوط التدهور على الجنيه السوداني.
3. توصية للمستثمرين: تقييم علاوة المخاطر
ينظر المستثمرون الإقليميون والدوليون إلى السودان حالياً كبيئة شديدة التقلب. إن فشل الهدن المتكرر يرسخ فكرة أن الصراع قد وصل إلى مرحلة "التوطين" أو التمدد الجغرافي والزمني، وهو أسوأ سيناريو يمكن أن يواجه أي تحليل للجدوى الاقتصادية.
توصي قراءتنا التحليلية بما يلي:
يجب على الصناديق التي كانت تضع السودان ضمن خططها الاستثمارية طويلة الأجل (ما بعد الصراع) أن تعيد تقييم علاوة المخاطر السيادية بزيادة لا تقل عن 20-30% فوق التوقعات السابقة. التطورات الحالية تؤكد أن العودة إلى الاستقرار المؤسسي قد تتطلب وقتاً أطول بكثير، وتالياً، فإن أي استثمار مباشر جديد يجب أن يبقى معلقاً حتى تظهر مؤشرات واضحة على:
- تطبيق آلية دولية أو إقليمية صارمة لمراقبة وقف إطلاق النار.
- وجود التزام سياسي غير قابل للنقض بوقف القتال، مدعوم بقوة دولية ضامنة.
في غياب ذلك، يظل المشهد السوداني برميل بارود يهدد بتقويض الاستقرار الإقليمي، ويجعل من فكرة استغلال الموارد الهائلة للبلاد مجرد حلم بعيد المنال في الأفق المنظور.