تستلزم الأحداث السياسية في المناطق عالية المخاطر (High-Risk Jurisdictions) قراءة متعمقة تتجاوز حدود الخبر المباشر، وتلامس مؤشرات الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى استعادة ياسمين باسولي، ابنة وزير الخارجية الأسبق والجنرال جبريل باسولي، لحريتها في واغادوغو يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد اختفاء قسري دام لأكثر من عام، كحدث إنساني فحسب، بل كمؤشر بارومتري دقيق على ديناميكيات السلطة الحالية، ومدى استعداد النظام الانتقالي في بوركينا فاسو لإعادة ترتيب أوراقه الداخلية.
أبعاد الصفقة: تحليل للسياق الجيوسياسي وميزان القوى
يُعد اسم الجنرال باسولي ثقلاً سياسياً مهماً في بوركينا فاسو، حيث يمثل تياراً عسكرياً-سياسياً ذا نفوذ، كما أن اختفائها كان يمثل ورقة ضغط حساسة في يد الحكومة الانتقالية، التي تواجه تحديات أمنية متصاعدة وصراعاً مع الجماعات المسلحة، بالإضافة إلى الضغوط الإقليمية والدولية (خاصة من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا - إيكواس).
ماذا تعني هذه الخطوة للمحلل السياسي والاقتصادي؟
1. إشارات محتملة للانفراج الداخلي
قد يُفسر إطلاق سراح شخصية ذات علاقة عائلية قوية بالمعارضة التاريخية أو بمركزي القوى السابقة، كبادرة حسن نية أو خطوة تكتيكية لامتصاص الغضب الداخلي وتخفيف حدة التوتر السياسي قبل أي استحقاقات قادمة. الأنظمة الانتقالية تسعى دائماً لتقليل عدد الجبهات المفتوحة، وتوفير حد أدنى من الهدوء السياسي الداخلي قد يتيح لها تركيز جهودها على الأزمة الأمنية المتفاقمة.
2. استجابة للضغوط الدولية
في ظل العزلة المتزايدة التي يواجهها محور دول الساحل (مالي، بوركينا فاسو، النيجر) وانخراطها في مسارات غير تقليدية بعيداً عن الشركاء الغربيين التقليدين، فإن أي خطوة لتحسين سجل حقوق الإنسان أو إنهاء ملفات الاعتقالات السياسية قد تكون جزءاً من محاولة لـ "تليين" المواقف الدولية أو إظهار قدر من المسؤولية السياسية أمام الجهات المانحة والمؤسسات المالية الدولية.
انعكاسات الحدث على مؤشر مخاطر الاستثمار (Political Risk Premium)
بالنسبة للمستثمر في الأسواق الناشئة، خاصة في قطاعات التعدين (الذهب تحديداً، وهو عصب الاقتصاد البوركينابي)، فإن القياس الدقيق لمخاطر الاستثمار لا يتوقف عند الميزانية أو الأداء التشغيلي، بل يرتكز بشكل أساسي على الاستقرار السياسي.
تأثير محدود ولكن دال
بينما لا يُتوقع أن يُحدث خبر واحد كهذا تحولاً جذرياً في مؤشرات السوق أو أسعار الأسهم المرتبطة بالقطاع، فإنه يُعتبر إشارة إيجابية هامشية. إن استقرار البيئة التشريعية والأمنية هو الأهم. النبأ يشير إلى أن النظام قد يمتلك مساحة للمناورة السياسية والقدرة على إدارة ملفاته الخلافية، وهذا قد يقلل، ولو بشكل طفيف، من احتمالات الانزلاق الفوري نحو المزيد من العنف السياسي أو الانقلابات المضادة.
خلاصة المستثمر: على الرغم من أن بوركينا فاسو تظل مصنفة في خانة المخاطر المرتفعة بسبب التحديات الأمنية المستدامة، فإن أي مؤشر على تخفيف حدة التوتر السياسي الداخلي يُترجم إلى انخفاض طفيف في "علاوة المخاطر السياسية" (Political Risk Premium) التي يطالب بها المستثمرون مقابل الاحتفاظ بأصول في البلاد. يجب متابعة هل ستتبع هذه الخطوة حوارات أوسع أو إطلاق سراح مزيد من المعتقلين السياسيين.
التوقعات المستقبلية: ما يجب مراقبته
يجب على المستثمرين ومحللي الأسواق المالية متابعة الجوانب التالية في الأشهر القادمة:
- حجم الاستجابة العسكرية للأزمة الأمنية: هل سيمكن الهدوء السياسي المحتمل النظام من تحقيق مكاسب عسكرية ملموسة ضد الجماعات المتطرفة؟ النجاح الأمني هو المحفز الأكبر لثقة المستثمرين.
- العلاقات مع إيكواس وفرنسا: هل سيؤدي تحسين الوضع الداخلي إلى إعادة تقييم العلاقات مع الشركاء الإقليميين والدوليين، مما يفتح الباب أمام دعم اقتصادي أو أمني جديد؟
- سياسة التعدين الجديدة: غالبًا ما تؤدي التغييرات في السلطة إلى مراجعة عقود التعدين وشروط الامتيازات. أي مؤشر على استقرار القوانين المتعلقة باستخراج الموارد سيكون حاسماً.
في الختام، يُثبت المشهد في واغادوغو مرة أخرى أن السياسة الداخلية، حتى في قصص الاختفاء القسري، هي المحرك الرئيسي للتوقعات الاقتصادية في منطقة الساحل. هذه الخطوة قد تكون مجرد مناورة، ولكنها تستحق التسجيل في دفتر ملاحظات مراقب المخاطر.