في خضم الصراع الدائر في السودان، لم تعد التداعيات محصورة في النطاق الإنساني أو العسكري الداخلي، بل ارتفعت وتيرتها لتلامس أشد الخطوط الحمر حساسية على المستوى الدولي. إن اتهام الولايات المتحدة للجيش السوداني، بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، باستخدام أسلحة كيميائية يمثل نقطة تحول جيوسياسية قد تعيد تعريف مستقبل الخرطوم الاقتصادي والسياسي لعقود قادمة. بالنسبة للمستثمرين وصناع القرار، لا يمثل هذا الخبر مجرد تطور ميداني، بل هو مؤشر خطر يهدد بتدفق موجات جديدة من العقوبات المعقدة.
الرافعة الجيوسياسية: تجاوز سقف التسامح الدولي
إن الاتهامات الأمريكية، التي لم تُقدم تفاصيلها بشكل كامل بعد، تحمل وزناً ثقيلاً يتجاوز مجرد الإدانة الدبلوماسية. استخدام الأسلحة الكيميائية، في حال ثبوته، يصنف ضمن جرائم الحرب ويشكل انتهاكاً صارخاً للمعاهدات الدولية، أبرزها اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية (CWC). بالنسبة لواشنطن والغرب عموماً، يُعد هذا الملف سقفاً لا يمكن التهاون فيه، خاصة في ظل سوابق التعامل مع ملفات مماثلة في الشرق الأوسط.
التحليل العميق: إذا ثبتت هذه المزاعم، فإن حكومة الأمر الواقع في الخرطوم تكون قد جردت نفسها من أي غطاء سياسي أو دبلوماسي متبقٍ. هذا التجاوز يدفع الإدارة الأمريكية، بالضرورة، إلى تفعيل أدوات الضغط الأكثر قسوة، ليس فقط ضد الأفراد القياديين، بل ضد الكيانات الاقتصادية والمالية المرتبطة بالجيش.
المخاطر السوقية والعقوبات المُمنهجة: سيناريو "الخطر السيادي"
تتركز المخاوف الاستثمارية الحقيقية في الآتي:
- تجميد الأصول والتدفقات: قد تتحول العقوبات من طابعها الفردي (استهداف قادة) إلى عقوبات قطاعية تجمّد أصولاً تابعة للمؤسسات العسكرية والشركات المدنية التي يسيطر عليها الجيش. وهذا يعيق أي محاولات مستقبلية لرفع التمويل الخارجي أو استئناف التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية.
- تدهور التصنيف الائتماني: بالرغم من أن السودان يواجه تحديات ائتمانية مزمنة، فإن إدراج الجيش أو المؤسسات التابعة له في قوائم العقوبات الصارمة سيعزز من حالة "الخطر السيادي" المرتفع، مما يضع حاجزاً جديداً أمام أي استثمار أجنبي مباشر غير محفوف بالمخاطر.
- سوق السلع الاستراتيجية: السودان لاعب هام في قطاعات مثل الذهب والثروة الحيوانية. إن تشديد الرقابة الدولية على منافذ التصدير والتمويل المتعلقة بهذه القطاعات، بحجة منع وصول العائدات إلى المؤسسات المعاقبة، سيؤدي إلى اضطراب حاد في سلاسل الإمداد وتدهور في سعر صرف العملة المحلية.
المسارات المستقبلية المتوقعة للقرار الأمريكي
نادراً ما يطلق المسؤولون الأمريكيون اتهامات بهذا الحجم دون التمهيد لرد فعل قوي. يمكننا تحديد ثلاثة مسارات محتملة لتطور الموقف الأمريكي، يجب على المستثمر مراقبتها:
المسار الأول: الضغط الدبلوماسي المشدد وتفعيل حظر السفر
يشمل هذا المسار توسيع قائمة المسؤولين المشمولين بحظر السفر وتجميد الأصول، مع ضغط مكثف عبر مجلس الأمن لفرض رقابة دولية على المواقع المشتبه بها. تأثيره الاقتصادي محدود ومباشر.
المسار الثاني: العقوبات القطاعية المتخصصة (الخيار الأرجح)
يتضمن هذا المسار استهداف قطاعات محددة (مثل النفط أو التعدين أو قطاعات الدفاع) ومنع الشركات الأمريكية من التعامل معها. هذا المسار ينطوي على مخاطر عالية لـ "عدوى العقوبات" التي قد تطال البنوك الإقليمية المتعاملة مع تلك الكيانات.
المسار الثالث: إعادة التصنيف والإدراج على قوائم الإرهاب
في السيناريو الأكثر تشاؤماً (وإن كان مستبعداً في الوقت الراهن)، إذا أدى استخدام الكيماوي إلى تهديد مباشر لمصالح حيوية، قد تعيد واشنطن النظر في تصنيف الخرطوم أو بعض كياناتها. هذا من شأنه أن يغلق الباب أمام أي آفاق اقتصادية لسنوات طويلة ويجعل السودان ملاذاً محظوراً للتمويل الدولي.
الخلاصة الاستثمارية
إن الاتهام باستخدام الأسلحة الكيميائية لا يمثل مجرد خرق للقانون الإنساني، بل هو تحول هيكلي في النظرة الدولية لنظام البرهان. يجب على المستثمرين النظر إلى هذه التطورات من منظور إدارة المخاطر الجيوسياسية، واعتبار أن احتمالية فرض عقوبات مالية وتنظيمية قاسية قد ارتفعت بشكل كبير، مما يزيد من تعقيد مهمة أي جهة تسعى لتحقيق عوائد استثمارية في بيئة الخطر السيادي السوداني.