أدلى رئيس الوزراء اللبناني، نواف سلام، بتصريحات بالغة الأهمية تكشف عن المعضلة الأمنية والسيادية المستعصية التي تعصف بالدولة اللبنانية. إن هذه التصريحات لا تُعد مجرد تقرير إخباري، بل هي تحليل دقيق للوضع الجيوسياسي الذي يشكل الرافعة الأكبر لمخاطر السيادة اللبنانية، ويؤثر بشكل مباشر على تقييمات الأسواق المالية ومناخ الاستثمار الإقليمي.
التحليل البنيوي للأزمة: معضلة الدائرة المفرغة
تتمحور الأزمة الأمنية في الجنوب اللبناني، وفقاً لتصريحات سلام، حول حلقة مفرغة من الشروط المتبادلة. فمن جهة، تتخذ إسرائيل من ضرورة نزع سلاح حزب الله ذريعة استراتيجية لعدم الانسحاب الكامل من المناطق التي تحتلها في جنوب لبنان. ومن جهة أخرى، يرفض حزب الله التخلي عن سلاحه، معتبراً أن وجوده المسلح هو الضمانة الوحيدة لردع أي عدوان مستقبلي ما دامت القوات الإسرائيلية لم تغادر الأراضي اللبنانية بالكامل.
إن هذا الجمود ليس مجرد خلاف سياسي عابر، بل هو "معضلة بنيوية" تُعرّف حالة اللااستقرار في المنطقة. بالنسبة للمستثمرين، تعني هذه المعضلة استمرار رفع علاوة المخاطر (Risk Premium) على الأصول اللبنانية والإقليمية المرتبطة بها.
الانعكاسات على الأسواق المالية ومخاطر السيولة
إن غياب الإجماع حول أولويات السيادة اللبنانية (الانسحاب يليه نزع السلاح، أو العكس) يترجم مباشرة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة. يمكن تلخيص الانعكاسات الاقتصادية والمالية لهذه التصريحات في النقاط التالية:
- تعطيل الإصلاحات الهيكلية: لا يمكن للمجتمع الدولي أو المؤسسات المانحة (كصندوق النقد الدولي) الدفع ببرامج إنقاذ فعالة في ظل بيئة أمنية متفجرة وغير مستقرة. هذا الجمود يضمن بقاء لبنان خارج مسارات التمويل الدولية.
- تفاقم مخاطر الديون السيادية: تُبقي هذه الديناميكية الجيوسياسية تصنيف لبنان الائتماني عند مستويات متعثرة (Default)، مما يزيد من صعوبة إعادة هيكلة الديون أو الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية.
- هروب رؤوس الأموال: استمرار حالة عدم اليقين يُغذي عمليات التحوط وهجرة رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية، مما يضع ضغطاً متزايداً على الليرة اللبنانية والاحتياطات الأجنبية المتبقية.
قراءة المستثمر الاستراتيجي للمشهد الجيوسياسي
يجب على المستثمر الذي يراقب منطقة الشرق الأوسط أن ينظر إلى هذه التصريحات كـ"مؤشر رئيسي" (Leading Indicator) لمستوى التوتر. لا يتوقع أي اختراق سياسي أو أمني جذري ما لم تتدخل قوى إقليمية أو دولية مؤثرة لتغيير معادلة الشروط المتبادلة.
من منظور الأسواق، يظل لبنان رهينة التوازنات الإقليمية الأوسع. أي تداول للأصول اللبنانية في الوقت الراهن يُصنف ضمن "الاستثمار عالي المخاطر" (High-Risk Speculation)، حيث أن العوائد المحتملة تعتمد كلياً على فك الارتباط بين قضيتي الانسحاب ونزع السلاح. حتى ذلك الحين، يظل الوضع الأمني هو المتحكم الأقوى في اتجاهات السوق، متجاوزاً بذلك جميع محاولات الإصلاح الاقتصادي المحلية.