بصفتي محللاً اقتصادياً وسياسياً متابعاً لحركة رؤوس الأموال وارتباطها بالاستقرار الجيوسياسي، فإن التصعيد الأخير في الحرب الأهلية السودانية لا يمثل مجرد نكسة إنسانية، بل هو تحول هيكلي جذري يفرض إعادة تقييم شاملة للمخاطر في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
لقد تجاوز الوضع مرحلة الصراع الداخلي التقليدي ليتحول إلى ترسيم نفوذ واقعي بين القوى المتحاربة، مما يعيد أكبر دول إفريقيا مساحةً إلى مربع التجزئة الفعلية. هذا الانقسام المُرتقب، أو الـ "تشظي المُتحكم به"، يقوّض بشكل مباشر أي جهود سابقة للتوحيد أو التنمية المستدامة، ويهدد بإفراغ خطط السلام الإقليمية والدولية – أياً كانت تسميتها – من مضمونها الاستراتيجي.
تشظي الدولة وتداعيات الأمن الإقليمي (المخاطر الجيوسياسية)
إن المشهد السوداني لم يعد صراعاً على السلطة في العاصمة، بل بات حرباً إقليمية بالوكالة تهدد بخلخلة موازين القوى في شرق إفريقيا والبحر الأحمر، وهي منطقة حيوية للتجارة العالمية والطاقة. من منظور المستثمر، تكمن خطورة هذا التطور في ثلاث نقاط رئيسية:
- تأمين الممرات البحرية: السودان يطل على منطقة البحر الأحمر التي تعتبر شرياناً تجارياً عالمياً. أي تفاقم للصراع على الشريط الساحلي أو تزايد نفوذ الميليشيات المسلحة على الحدود يرفع من تكاليف التأمين البحري (Insurance Premiums) ويزيد من تقلبات أسعار الشحن، وهو ما يؤثر مباشرة على سلاسل الإمداد الآسيوية والأوروبية.
- تصدير الفوضى: إن ترسيخ سيطرة أطراف متناحرة على مناطق واسعة يفتح الباب أمام تحويل السودان إلى قاعدة لعمليات غير مستقرة، مما يؤثر على أمن مصر وإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان، ما يستدعي تدخلات عسكرية إقليمية تزيد من درجة التعقيد والمخاطر.
- فشل الاستراتيجيات الدبلوماسية: يشير هذا الانقسام إلى فشل ذريع للضغوط الدبلوماسية وعمليات الوساطة. هذا الفشل يبعث برسالة سلبية إلى الأسواق مفادها أن النزاعات الأفريقية الكبرى قد أصبحت نزاعات مزمنة يصعب احتواؤها، مما يوجب على صناديق الاستثمار تقليص تعرضها للمخاطر في القارة بشكل عام.
معادلة الانكماش الاقتصادي وأمن سلاسل الإمداد
بعيداً عن العناوين السياسية، يمتلك السودان ثروات طبيعية هائلة، أهمها الذهب والمعادن والأراضي الزراعية الخصبة. إن الحرب قد أدت إلى شلّ الإنتاج تماماً، مما له ارتدادات اقتصادية ملموسة:
- سوق الذهب: السودان هو منتج رئيسي للذهب في إفريقيا. سيطرة الميليشيات على مناجم الذهب تعني زيادة في تجارة الذهب غير المنظم والمهرب، مما يغذي آلة الحرب ويزيد من صعوبة تتبع مصدر المعدن الثمين، وهو تحدٍ كبير أمام الشركات العالمية الملتزمة بمعايير الحوكمة (ESG).
- النزوح وتكاليف الاستضافة: تشكل موجات النزوح الهائلة عبئاً اقتصادياً هائلاً على دول الجوار (مصر، تشاد، جنوب السودان). هذا الضغط المالي يضعف من قدرة هذه الدول على تحقيق مستهدفاتها التنموية، وقد يؤدي إلى تفاقم التضخم الإقليمي نتيجة للزيادة المفاجئة في الطلب على السلع الأساسية.
- الزراعة والأمن الغذائي: تعطل الموسم الزراعي في السودان، الذي كان يُنظر إليه كـ "سلة غذاء" محتملة للمنطقة، يؤدي إلى تفاقم أزمة الأمن الغذائي في إفريقيا، وهي مسألة تزيد من احتمالات عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
أفريقيا في دائرة التقييم: ارتفاع علاوة المخاطر في الخرائط الاستثمارية
إن الوضع في السودان يُعد مؤشراً صارخاً على أن المخاطر الجيوسياسية في القارة الإفريقية لم تعد تقتصر على الانقلابات السريعة، بل تتجه نحو حروب أهلية طويلة الأمد تؤدي إلى انهيار البنية التحتية للدولة.
يجب على المستثمرين الدوليين وصناديق الثروة السيادية التعامل مع المعطيات الجديدة بناءً على التحليل التالي:
1. التراجع عن الاستثمار في البنية التحتية: من المتوقع أن تشهد مشاريع البنية التحتية الكبرى التي تتطلب استقراراً طويل الأمد (مثل الموانئ والسكك الحديدية والطاقة) إحجاماً كبيراً في المناطق المتاخمة للنزاع. إن مفهوم "الجوار المستقر" قد تآكل بشكل كبير.
2. إعادة تسعير مخاطر الإقراض السيادي: سيؤدي تزايد عدم اليقين إلى رفع تكلفة الاقتراض على الحكومات الإقليمية، حيث ستطلب الأسواق علاوة مخاطر أعلى مقابل التعرض لديون الدول التي تتأثر بشكل مباشر أو غير مباشر بالفوضى السودانية.
3. التركيز على الملاذات الآمنة: سيتم تحويل الاستثمارات الإقليمية نحو الدول التي تتمتع بحصانة جغرافية وسياسية واقتصادية أكبر، مثل اقتصادات شمال إفريقيا أو بعض دول الجنوب التي لديها سجل استقرار مؤسساتي أقوى، مع الاحتفاظ ببعض الاستثمارات في القطاعات المحصّنة (كالطاقة المخصصة للتصدير البحري).
الخلاصة: إن انقسام السودان ليس مجرد خبر سياسي عابر؛ إنه بمثابة زلزال جيوسياسي يُجبر المستثمرين على إعادة معايرة نماذج المخاطر الخاصة بهم، وتوقع المزيد من التقلبات في الأسواق الإقليمية التي تعتمد على الاستقرار في هذا الممر الحيوي.