يتحول الصراع السوداني، الذي طال أمده، بشكل متسارع من أزمة داخلية إلى تحدٍ بنيوي يهدد استقرار الإقليم بأكمله، بل ويزعزع بعضاً من أهم الركائز الجيوسياسية في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي. إن الترسخ الفعلي لسيطرة أطراف النزاع على مناطق جغرافية واسعة ومتباينة يعيد سيناريو "التقسيم الفعلي" على طاولة المفاوضات الإقليمية والدولية، ما يفرض إعادة تقييم جذرية لتقديرات المخاطر السيادية والاستثمارية.
أبعاد التفتت الجيوسياسي: تهديد لـ "خطة السلام المجهضة"
لقد كشفت التطورات الأخيرة عن فشل ذريع في محاولات الوساطة التي سعت لعقد تسوية مركزية، بما في ذلك المحاولات التي سبقت النزاع واسُتُمدت من «أجندة أبراهام» في إطار سعي إدارة الرئيس السابق ترامب لترسيم خارطة سلام جديدة في المنطقة. إن انزلاق السودان، الذي يُعد أكبر دول إفريقيا مساحة تاريخياً ومحوراً استراتيجياً بين شمال إفريقيا والقرن، إلى حالة من الـ "التقسيم العملي" يمثل نكبة استراتيجية.
لا يقتصر الخطر على تفجر الأوضاع داخلياً فحسب، بل يمتد إلى خلق بيئة خصبة لـ الحرب بالوكالة. فالصراع بات يستقطب مصالح قوى إقليمية ودولية متنافسة (سواء لدوافع أمنية، أو متعلقة بمسارات التجارة والسيطرة على مناجم الذهب)، ما يزيد من تعقيد المشهد ويجعل فكرة إعادة توحيد البلاد تحت سلطة مركزية واحدة أمراً شبه مستحيل في المدى القريب. هذا التفتت يرفع مستوى الهشاشة الأمنية لدول الجوار المباشر مثل تشاد، وإثيوبيا، وجنوب السودان، ما يضع المنطقة بأسرها في خانة عدم اليقين.
التحوطات السوقية وتأثير الانقسام على المعادلة الاقتصادية
بالنسبة للمستثمر الذي يراقب الديناميكيات العالمية، فإن السودان يمثل نقطة ضغط على عدة قطاعات اقتصادية حيوية، أبرزها:
1. أمن سلاسل الإمداد ومخاطر البحر الأحمر:
على الرغم من أن السودان ليس لاعباً رئيسياً في الملاحة العالمية، إلا أن موقعه المطل على البحر الأحمر يجعله جزءاً لا يتجزأ من المعادلة الجيواستراتيجية. أي توسع في النزاع أو خلق بؤر عدم استقرار إضافية على الساحل يضيف طبقة جديدة من المخاطر التشغيلية على مسارات التجارة المارة بمضيق باب المندب وقناة السويس، مما يستوجب تعديل علاوات المخاطر (Risk Premiums) لشركات الشحن واللوجستيات العاملة في المنطقة.
2. أسواق السلع وتدفقات الذهب غير المنظمة:
يُعد السودان أحد أكبر منتجي الذهب في إفريقيا. يؤدي انهيار السلطة المركزية إلى تفاقم ظاهرة التهريب والتدفقات المالية غير المشروعة للذهب. هذا يؤثر على استقرار أسعار الذهب الإقليمية ويغذي خزائن الأطراف المتحاربة، مما يضمن استمرار تمويل الصراع. على المستثمرين تحليل كيفية تأثير هذه التدفقات غير النظامية على أسواق الذهب الإقليمية والدولية.
3. الهشاشة السيادية لدول الجوار:
النزوح الجماعي للاجئين (ملايين الأشخاص) يضع ضغطاً هائلاً على الميزانيات السيادية والبنى التحتية لدول الجوار الفقيرة نسبياً. هذا الضغط يزيد من احتمالية تخفيض التصنيف الائتماني لتلك الدول، مما يجعلها أقل جاذبية للاستثمار الأجنبي المباشر ويتسبب في ارتفاع تكلفة الاقتراض.
الخلاصة: توقعات مستقبلية لحالة "اللا دولة"
ما يحدث في السودان ليس مجرد فوضى عابرة، بل هو تحول هيكلي نحو حالة من "اللا دولة" (Anarchy) أو التقسيم الفيدرالي القسري. إن غياب جهة موحدة ذات سلطة حقيقية يضمن استمرار حالة عدم اليقين لسنوات قادمة.
على المستثمرين والشركات الدولية مراجعة استراتيجياتهم الإفريقية بالكامل، واعتبار السودان في الوقت الراهن بمثابة