***
لطالما اعتُبر القطاع الصحي الأردني، بشقيه العام والخاص، ركيزة أساسية لاقتصاد المملكة، ومحوراً جاذباً للاستثمار في مجال السياحة العلاجية. ومع ذلك، تُشير التحقيقات الأخيرة إلى تآكل خطير في الأسس الأخلاقية والمهنية التي يقوم عليها هذا القطاع الحيوي، وهو تآكل لا يقتصر تأثيره على جودة الرعاية فحسب، بل يمتد ليضرب بعمق في هيكل الثقة التنظيمية والاستثمارية.
التحليل الاقتصادي للسوق الخفية: تشوهات في القيمة المضافة
إن ظاهرة تأجير الأطباء والصيادلة لشهاداتهم أو تراخيصهم المهنية مقابل عائد مالي ثابت، هي في جوهرها انعكاس لخلل هيكلي مزدوج: ضعف الرقابة وتشوه آليات السوق. المستثمر الذي يلجأ إلى هذه الممارسة هو في الواقع يشتري "غطاءً شرعياً" لتشغيل منشأة (صيدلية، مركز طبي، عيادة) دون الالتزام بمعايير الكفاءة المهنية، محققاً بذلك ميزة تنافسية غير عادلة قائمة على خفض التكاليف التشغيلية المتعلقة بالتوظيف المؤهل.
من منظور الاقتصاد الجزئي، تشكل هذه الشهادات المؤجرة ما يمكن تسميته بـ "رأس المال السري" (Shadow Capital) الذي يعمل خارج الإطار التنظيمي السليم. هذا يخلق سوقاً سوداء للخدمات المهنية، حيث يتم تداول قيمة التراخيص بعيداً عن الكفاءة الفعلية، مما يقلل من القيمة المضافة الحقيقية للخدمات الصحية المقدمة ويخلق أرضية خصبة للمخاطر الصحية التي يمكن أن تتحول إلى مسؤوليات قانونية ومالية ضخمة لاحقاً.
تأثير فجوة الأجور على حوكمة المهنة
لا يمكن تجاهل الدافع وراء قبول المهنيين لهذه الممارسات. غالباً ما تعكس هذه الظاهرة فجوات كبيرة في الأجور، خاصة بين الخريجين الجدد أو العاملين في القطاع العام. عندما يجد الطبيب أو الصيدلي أن العائد المالي من "تأجير الاسم" يفوق راتبه المستحق، فإن ذلك يشير إلى فشل في تسعير الكفاءة ضمن الاقتصاد الرسمي، ويدفع الكفاءات نحو التنازل عن واجبها المهني مقابل مكاسب سريعة، مما يقوض مفهوم "الواجب الائتماني" (Fiduciary Duty) تجاه المريض.
المخاطر الجيوسياسية ومناخ الاستثمار الإقليمي
بالنسبة للمستثمر، سواء كان محلياً أو إقليمياً، فإن هذه الظواهر تبعث رسالة سلبية قوية حول جودة الحوكمة ومستوى اليقين التنظيمي (Regulatory Predictability) في الأردن.
تآكل ثقة السياحة العلاجية
يُعد الأردن رائداً إقليمياً في السياحة العلاجية. هذا النموذج الاقتصادي يعتمد بالكامل على السمعة غير القابلة للتفاوض للجودة الطبية. أي تقارير واسعة النطاق حول ممارسات غير أخلاقية أو غياب الكفاءة في التشغيل، ستؤدي حتماً إلى تحويل رؤوس الأموال والسياح العلاجيين إلى أسواق منافسة مثل الإمارات أو تركيا. إن تكلفة استعادة السمعة تفوق بكثير تكلفة تطبيق التنظيم الفعال.
ضغط على أسهم شركات التأمين
على مستوى الأسواق المالية، تتعرض أسهم شركات التأمين العاملة في القطاع الصحي لضغوط محتملة. انخفاض جودة الرعاية يؤدي إلى تضاعف المطالبات (Claims) الناتجة عن أخطاء طبية أو مضاعفات علاجية. كما أن غياب الرقابة الفعالة يزيد من احتمالية الاحتيال التأميني والاستغلال المالي من قبل المنشآت غير المرخصة بشكل سليم، مما يؤثر سلباً على هامش الربح (Profit Margin) لشركات التأمين ويضع ضغوطاً تصاعدية على أقساط التأمين.
خلاصة وتحليل للمستقبل التنظيمي
تتطلب معالجة هذه الأزمة مقاربة شاملة تتجاوز العقوبات الفردية. يجب على الهيئات التنظيمية في الأردن إعادة هندسة نظام الترخيص لضمان الارتباط المباشر بين الكفاءة والمسؤولية التشغيلية للمنشأة. لا يكفي معاقبة المؤجر؛ بل يجب محاسبة المستثمر الذي يسعى لتحقيق الربح عبر الإخلال بمعايير السلامة المهنية.
على المدى الطويل، فإن استدامة القطاع الصحي الأردني كمركز استثماري جاذب يتوقف على مدى سرعة وصرامة الحكومة في سد الثغرات القانونية، وتفعيل الرقابة الميدانية، وضمان أن تكون الكفاءة المهنية هي المعيار الوحيد لدخول السوق والبقاء فيه. الفشل في ذلك سيحول إحدى المزايا التنافسية الرئيسية للمملكة إلى مصدر للمخاطر الجيوسياسية والاقتصادية.
المحلل: فريق التحرير الاقتصادي والسياسي المتخصص