جيوكيمياء الصراع: اتهامات الأسلحة الكيماوية والارتدادات الاقتصادية لتجاوز "الخط الأحمر" في السودان
من منظور المحلل الاقتصادي والجيوسياسي، لا تُعد الاتهامات التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية للجيش السوداني (تحت قيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان) باستخدام أسلحة كيميائية مجرد تصعيد دبلوماسي، بل هي نقطة تحول مفصلية تعيد تعريف المخاطر السيادية والاستثمارية في كامل منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي. إن تجاوز "الخط الأحمر" الكيميائي، إن ثبت، يحوّل الصراع الداخلي من أزمة إنسانية مأساوية إلى قضية أمن دولي بالغة التعقيد، حاملةً في طياتها حتمية فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة.
1. التحليل الجيوسياسي: ثمن انتهاك البروتوكولات الدولية
تُشير الاتهامات الأمريكية، التي لم تُقدم تفاصيلها الكاملة بعد، إلى أن القيادة العسكرية السودانية ربما تكون قد فقدت حسابات المخاطر، أو أنها وصلت إلى مرحلة يائسة في إدارة الصراع مع قوات الدعم السريع. تاريخياً، يُعتبر استخدام الأسلحة الكيميائية (سواء ثبت استخدامها أم كانت مجرد تهديد موثق) خطاً فاصلاً لا يتسامح معه المجتمع الدولي، وتحديداً واشنطن.
يضع هذا الاتهام الخرطوم مباشرةً تحت المجهر في محكمة القانون الدولي، ويزيد من احتمالية تفعيل آليات عقابية أشد صرامة من تلك المفروضة حالياً بسبب انقلاب 2021 والحرب الأهلية. هذا التطور يفسد أي جهود إقليمية، لا سيما من دول الخليج، كانت تسعى للتوسط أو للمساعدة في إعادة هيكلة الديون السودانية أو تمويل مشاريع الإغاثة، حيث يصبح التعامل مع حكومة البرهان محفوفاً بالمخاطر القانونية والسمعة.
2. الارتدادات الاقتصادية: تجميد الأصول وعزلة التجارة
بالنسبة للمستثمر والتاجر، فإن تجاوز هذا الخط الأحمر له تبعات اقتصادية فورية:
2.1. تفعيل أدوات العقوبات النوعية
من المرجح أن تنتقل واشنطن من العقوبات العامة إلى "التصنيفات الخاصة" (Special Designations) التي تستهدف قيادات الجيش والكيانات المرتبطة بهم مالياً بشكل مباشر. هذا يتجاوز الإدانات الدبلوماسية ليطال الأصول المجمدة، ويفرض قيوداً على التعاملات البنكية الدولية عبر نظام سويفت (SWIFT)، مما يزيد من عزل السودان عن النظام المالي العالمي. ستتأثر بشدة أي شركات إقليمية أو عالمية تعمل في قطاعات الذهب أو التعدين أو البنية التحتية ذات الصلة بالجيش.
2.2. انهيار فرص الإغاثة وإعادة الهيكلة
كانت الآمال معلقة على أن انتهاء الصراع قد يفتح الباب أمام مبادرات تخفيف الديون (HIPC) أو الحصول على قروض تنموية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. الاتهامات الكيماوية تقضي على هذه الآمال تماماً في المدى المنظور. أي التزام دولي تجاه السودان سيُجمد، ما يضمن استمرار التدهور الاقتصادي والتضخم الجامح، ويضع البلد في مسار انهيار مالي سيادي كامل.
3. استراتيجية المستثمر: تقييم المخاطر الإقليمية
يجب على المستثمرين في الأسواق الإقليمية المجاورة (خاصة مصر، أثيوبيا، وجنوب السودان) إعادة تقييم مخاطر "عدوى الصراع" (Contagion Risk). الصراع السوداني، بعد هذه الاتهامات، لم يعد مجرد مسألة حدودية، بل أصبح نقطة ضغط دولية تزيد من حالة عدم اليقين في كامل منطقة حوض النيل والقرن الإفريقي.
- مخاطر الحدود واللوجستيات: زيادة التدفقات الهجرة غير المنظمة تضغط على الميزانيات الوطنية لدول الجوار، وتزيد تكاليف الأمن والرقابة.
- تأثير سوق السلع: السودان، كمنتج رئيسي للذهب وبعض السلع الزراعية، سيشهد اضطراباً هائلاً في سلاسل إمداده، مما قد يؤثر على الأسعار الإقليمية ويشجع التجارة غير الرسمية التي يصعب تتبعها.
- انسحاب الاستثمار الأجنبي المباشر: المستثمرون الغربيون، الحريصون على الامتثال (Compliance)، سيبدأون عملية "التخلص من المخاطر" (De-risking) وسحب استثماراتهم من المشاريع الإقليمية التي لها أي صلة ولو غير مباشرة بالسودان أو تخضع لضغط جيوسياسي كبير.
الخلاصة: إن كانت هذه الاتهامات صحيحة، فإن البرهان لم يتجاوز خطاً أحمر عسكرياً فحسب، بل تجاوز خطاً اقتصادياً وسياسياً دولياً لا يمكن العودة عنه بسهولة. المشهد المالي في الخرطوم يتجه نحو عزلة كاملة، والفرصة الوحيدة المتبقية هي تغيير جذري في قيادة الدولة وشفافية كاملة حول هذه المزاعم. غير ذلك، يجب على المستثمرين التعامل مع السودان على أنه قد تحول رسمياً إلى "دولة مارقة" في حسابات المخاطر الدولية.