بابا الفاتيكان في بيروت: هل يمكن لـ "صناعة السلام" أن تخفض علاوة المخاطر الجيوسياسية؟
في خضم حالة من عدم اليقين الإقليمي، والتردي الاقتصادي غير المسبوق في منطقة الشرق الأوسط، يكتسب التصريح الأخير الصادر عن البابا ليو الرابع عشر من بيروت أهمية قصوى تتجاوز السياق الديني لتلامس جوهر الاستقرار الجيوسياسي ومستقبل الاستثمار في الأسواق الناشئة. لم يكن تأكيد البابا على ضرورة "صناعة السلام رغم الصراعات" مجرد دعوة أخلاقية، بل هو بمثابة إقرار ضمني بأن الاستقرار لم يعد حالة طبيعية، بل بات منتجاً يتطلب استراتيجيات سياسية وهيكلية مدروسة، وهو ما يعني للمستثمر: إما بيئة مستقرة تفتح شهية رأس المال، أو استمراراً لعلاوة المخاطر المرتفعة.
بيروت: مؤشر المخاطر السيادية والتحليل الجيوسياسي
إن اختيار بيروت كنقطة انطلاق لهذه الرسالة الاستراتيجية هو اختيار ذو دلالة عميقة. لبنان، الذي يمثل حالياً نموذجاً متكاملاً لفشل الحوكمة والانهيار الاقتصادي المتزامن مع تغلغل النفوذ الإقليمي، يجسد تماماً السيناريو الذي يحاول المستثمرون تفاديه. عندما يتحدث زعيم بحجم البابا من هذا المنبر عن "صناعة السلام"، فإن الرسالة موجهة عملياً للقوى الدولية والإقليمية التي تملك مفاتيح الحلول الاقتصادية والسياسية.
في أدبيات الأسواق المالية، يُنظر إلى الاستقرار السياسي كأحد أهم العوامل المحددة لقيمة الأصول. فكلما ارتفعت حدة الصراع، ارتفع معها العائد المطلوب على الاستثمار (Risk Premium)، مما يرفع تكلفة الاقتراض الحكومي (سندات اليوروبوندز) ويجعل عمليات الاندماج والاستحواذ في المنطقة أكثر صعوبة.
مفهوم "صناعة السلام": من البلاغة إلى الاستثمار
التحليل يركز على الفعل (الصناعة). "صناعة السلام" تعني الانتقال من مجرد التمني إلى الاستثمار في البنية التحتية للسلام. هذا يتضمن:
- الإصلاح المؤسسي: تفكيك آليات الفساد التي تمول الصراع وتخنق النمو الاقتصادي.
- الاتفاقات الملزمة: توقيع ضمانات إقليمية تحمي حدود الدولة وتفصل بين السياسة الداخلية والنزاعات الخارجية.
- التدفقات الرأسمالية: لن تعود الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) إلى مناطق الصراع إلا بوجود إطار قانوني وتنفيذي يضمن عدم مصادرة الأصول أو تدمير البنى التحتية نتيجة الاضطرابات.
بالنسبة لمديري المحافظ الاستثمارية، فإن أي تحرك ملموس نحو "صناعة السلام" في منطقة مثل الشرق الأوسط يُترجم فوراً إلى تخفيض في تقييم المخاطر، مما قد يؤدي إلى تحرير سيولة كبيرة كانت محتجزة في أصول آمنة (مثل الذهب والسندات الأمريكية) وإعادة توجيهها نحو أسواق الأسهم والفرص العقارية المعطّلة في المنطقة.
تأثير المخاطر الجيوسياسية على تقييم الأصول
تعتبر رسالة الفاتيكان تذكيراً قوياً بأن الصراعات، مهما كانت دوافعها، هي مُسرِّب للقيمة. فبينما تسعى الاقتصادات العالمية للتعافي من صدمات التضخم ورفع أسعار الفائدة، تبقى المنطقة مرتهنة لعامل وحيد: الاستقرار السياسي.
يشير خبراء المخاطر في الأسواق الناشئة إلى أن التكلفة غير المباشرة للصراع تتجاوز بكثير الأضرار المادية. إنها تشمل هروب الكفاءات، وتجميد التكنولوجيا، وتدهور تصنيفات الائتمان السيادي. البابا ليو الرابع عشر يضع المسؤولية على عاتق الفاعلين لـ "صناعة" البيئة المناسبة التي تضمن ليس فقط الأمن الاجتماعي، بل أيضاً الجدوى الاقتصادية للمشاريع الكبرى.
الخلاصة التحليلية: دعوة الفاتيكان من بيروت هي في جوهرها دعوة إلى إعادة تسعير الأصول في المنطقة على أساس الاستقرار المُراد تحقيقه. لا يراهن المستثمرون على الأمن الموهوم، بل على الالتزام السياسي بإنشاء آليات سلام دائمة. وحتى يتحقق هذا "الصنع"، تبقى المنطقة تحت مجهر المخاطر العالية، وتبقى عوائدها المطلوبة هي الأعلى عالمياً.